فن التربية على التسامح … بقلم الدكتور / محمد طه … كلية التربية – جامعة طنطا

فن التربية على التسامح

بقلم الدكتور / محمد طه

كلية التربية – جامعة طنطا

 

يتضح بالضرورة الاجتماعية وجود الحاجة إلى استحضار منهجية دقيقة وفعالة تمكننا من ترجمة مفهوم التسامح إلى صورته العملية والأداتية في مجال الممارسة التربوية، حيث يمكن لهذه المنهجية الأداتية أن توضع في خدمة الأهداف التربوية وفي متناول المعلمين المعنيين بالتربية المدنية. وإذا كان التسامح في حقيقة الأمر خاصة من خواص المجتمعات الديمقراطية فإنه يجب التفكير في المناهج العملية والوسائل الفعالة التي تسمح للمعلمين والمربين بتعليم التسامح وتأصيل قيمه ومهاراته الأساسية.

وهنا يمكن الإشارة إلى منهج تعليمي للتسامح وهو المنهج الذي اعتمد من قبل مجموعة بيرتيلسمان (le Groupe Bertelsmann pour la recherche politique) حيث خلصت هذه المجموعة عبر دراساتها في مركز البحوث السياسي في جامعة مونيك بألمانيا (Munich) إلى بناء تصور لمفهوم التسامح (Tolérance) يقوم على مبدأ الممارسة الواقعية في مجال العمل التربوي ويؤسس أداة عملية لتأصيل التسامح في مجال التربية المدنية. ويؤكد في الوقت نفسه على الدور الحاسم الذي يمكن للتربية على الديمقراطية والتسامح أن تلعبه في عالم شديد التنوع والتعدد([8]).

يكتسب فن التسامح طابع الأولوية والأهمية في التربية المدنية المدرسية وفي التربية الأسرية أيضا. حيث تتمحور هذه التربية في ترسيخ المفاهيم الأساسية لمبدأ قبول الآخر والإيمان بضرورة وجوده وأهميته. فتعليم المهارات الاجتماعية التي تؤسس لفن التسامح ينبغي أن يشمل المستويات العقلانية والعاطفية والعملية. وهذا الفن يقوم على معرفة دقيقة وموضوعية لمفهوم التسامح كما ينطلق من امتلاك متقن لمهارات التسامح نفسه بوصفه فنا وطريقة ومنهجا وهذا الامتلاك للمفهوم والمهرة يمكن الأفراد بالضرورة من ممارسة التسامح الحقيقي في مجتمع متنوع يمتلك على عوامل الاختلاف والتباين. فهناك عوامل متعددة ومن أهمها ضرورة المعرفة المعمقة لمفهوم التسامح بدلالاته ومعانيه ومن ثم اكتساب القدرة على السلوك التسامحي ومن ثم امتلاك القدرة على توظيف هذه المعرفة وهذا السلوك في مواقف خلافية تتطلب ممارسة التسامح[9].

إن إدراك معنى التسامح ودلالته يؤسس لمعرفة عملية في مجال التربية التسامحية، وهذا بدوره يضمن تطوير هذه المعرفة وتوظيفها فعليا في مستويات الحياة المختلفة. وعلى هذا الأساس يمكن التأكد من مصداقية القرار التسامحي ومشروعيته. وهذا يتطلب أن يدرك المرء نتائج ممارسته التسامحية ويقبل بنتائجها، حيث يترتب على المتسامح أن يدرك حدود وأبعاد التسامح وأن يكون قادرا في الوقت نفسه على استخدام وتوظيف وسائل أخرى وخيارات جديدة ضرورية في مختلف المواقف الحياتية التي تتطلب ممارسة تسامحية. وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن المعرفة بمفردها لا تشكل حافزا كافيا من أجل ممارسة التسامح في حالة صراع أو اختلاف. فهناك نسق من القدرات يمكن للإنسان أن يوظفها في توليد ممارسة تسامحية نشطة، ومنها:

– القدرة على الحوار والتواصل والاستماع إلى وجهات نظر الآخر والإيمان بحقوقه وتقدير حاجاته.

– القدرة على تقبل الرأي الآخر

– القدرة على توظيف نماذج سلوكية ديمقراطية من أجل تنظيم الخلاف واحتواء النتائج المترتبة عليه.

– توليد معرفة بالذات قائمة على أن الإنسان بتكويناته الذاتية لا يتصف بالكمال وأن مواقفه ورؤاه وتصوراته وتفسيراته معرضة للخطأ والزلل والنقص والانحياز. وأن هذا النقص والانحياز الذاتي يمكنه أن يكون في أصل الخلاف مع الآخر.

فالتربية على التسامح لا تقف عند حدود بث المعلومات والتعريف بالمهارات التي تساعد على اكتساب المعرفة العملية في مجال ممارسة التسامح، بل ومن أجل ترجمة هذه المعلومات وهذه الخبرات إلى مجال الفعل والممارسة يتوجب على التربية أن تبني إحساس كبيرا بالتسامح وتشبعا بمعانيه كما يتطلب ذلك إحساسا أصيلا بالهوية لأن امتلاك هذا الشعور بالهوية المتماسكة يمكن الفرد المعني من تقدير الآخرين وهذا التقدير يشكل ضرورة لتقدير الذات ومدخلا أساسيا من مداخل التسامح الإنساني. فمن لا يقدر ذاته ولا يحترم نفسه لا يستطيع بالضرورة تقدير الآخرين احترامهم. وهذا التقدير للذات والآخر في الآن الواحد يشكل منطلقا جديدا لتقدير التنوع والاختلاف ذاته والنظر إلى التباين الإنساني والثقافي على أنه صورة من صور الغنى والثراء الإنساني وليس مظهرا من مظاهر التهديد والتخويف والقلق. وفي هذا التتابع يقتضي فن التسامح امتلاك المنهج المناسب لبناء الإحساس بالثقة بالنفس والذات والقدرة على التعبير عن الانطباعات الذاتية وعن الآراء والأفكار والحاجات التي تقتضيها ضرورة الوجود والحياة.

وإذا أردنا في حقيقة الأمر بناء استراتيجيات ضرورية لتعليم التسامح بطريقة فعالة فإن المربين يحتاجون بالضرورة إلى بناء مناهج تعليمية متطورة ومتخصصة لترسيخ فضيلة التسامح، حيث يمكن لهذه المناهج التعليمية أن تجعل من مهمة تعليم التسامح أمرا سهلا وميسورا وقابلا للتطبيق تربويا، حيث يمكن للمدرسين اعتمادها ببساطة في مجال عملهم التربوي لتحقيق الغايات والأهداف التربوي للتسامح. فالتعليم يحتاج بالضرورة إلى استراتيجية عملية تمكن من بناء المهارات والقدرات التسامحية عند التلامذة والطلاب والمريدين. وهذا المنهج يجب أن يتضمن تحديدا لمختلف المعايير العملية للفعاليات التطبيقية الممكنة في مجال التسامح بصورة تتصف بطابع الديمومة والاستمرار.

الأهداف التربوية للتسامح:

يأخذ التسامح اليوم دورا مركزيا في دائرة الحياة الإنسانية المعاصرة نظرا لما تعرف به هذه المجتمعات من تنوع وتعدد وتباين واختلاف، والتسامح في مختلف معانيه يمثل حاجة ديمقراطية في الصميم وضرورة لا محيد عنها في المجتمعات الديمقراطية. فالتسامح كما أسلفنا يسمح لأفراد المجتمع بالحياة المشتركة وقبول الاختلاف، كما أنه يسمح للأفراد بتقدير أنفسهم وأفعالهم ووجودهم الإنساني. وهذا يتطلب الإشارة من جديد إلى أهمية المعارف العملية للتسامح بوصفها ضرورة حيوية لتنظيم السلوك بعيدا عن كل أشكال العنف والتشنج والصراع. وهذه القدرة على التنظيم السلمي للحياة يشكل جوهر الحياة الديمقراطية وموطن قوتها.

فالمعارف والمهارات التي تشكل عماد المعرفة العملية في مجال ممارسة التسامح يمكن تعلمها واكتسابها. ومن أجل ذلك يجب بناء وإعداد المناهج التربوية المناسبة لهذا التعليم وذلك على أساس النظريات التربوية والتجارب الميدانية الجارية في هذا الميدان. وهنا تجب الإشارة إلى أهمية بناء التقنيات التي تمكن الفرد من السير بمقتضى التسامح وربط هذه التقنيات بالنظريات التربوية المعاصرة حول التربية على التسامح وحقوق الإنسان. وهذا يعني أنه يتوجب بناء المناهج وفقا للمعايير التالية:

-تمكين الأفراد من تجاوز كل السلوكيات القائمة على سوء الفهم والتقدير والنظر إلى هذا الأمر بوصفه أمرا طبيعيا ومن ثم التغلب على الاختلاف والتباين عبر الاتصال مع الآخر والتواصل معه.

-تعريف الأفراد بسمات ومخاطر التواصل حيث يمكنهم ذلك من السيطرة على سلوكهم وتصرفاتهم في وضعية الصراع والاختلاف.

– الاستفادة من مختلف التجارب التربوية في مجال التسامح والتربية على التسامح.

– تدريب الأفراد على اختبار نتائج التسامح الحقيقي بالمقارنة مع السلوك القائم على مبدأ اللاتسامح.

– التعريف بوجود إمكانيات ووسائط أخرى متعددة يمكنها توظيفها في وضعيات الاختلاف والصراع وتزويد الأفراد بمعلومات مؤكدة عن هذه الوسائط.

وهذه الفعاليات المنهجية تتطلب من المربين تحمل مسؤوليات كبيرة في ميدان التربية على التسامح وقبول الآخر، حيث يترتب عليهم بالإضافة إلى ذلك كله توفير المناخ التسامحي الذي يمكن المتعلم من اكتساب قيم التسامح ومعانيه. وهذا يعني أن تعليم التسامح يتمثل في دعوة الأفراد إلى التأمل النقدي في طرائق استجاباتهم العادية واليومية، ومن ثم تنقية هذه الأساليب من مختلف الشوائب التسلطية التي تغشاها، ومن ثم تعلم طرائق جديدة وأساليب جديدة تمكنهم من تجسيد روح التسامح ومنهجه في تعاملهم مع الآخر على مبدأ القبول والتقدير والاحترام. وفي هذا السياق فإنه يتوجب على المربين الكشف عن التنوع القائم في وجهات النظر والعقائد ومن ثم العمل على تقديم رؤى أكثر جدة وغنى في تجاوز تحديات التسلط والتعصب.

والسؤال الآن، أين هو المكان المفضل لممارسة هذه التربية التسامحية؟ هل تمثل هذه التربية- أي التربية على التسامح – مهمة مجتمعية على وجه العموم أم أنها مهمة تقع في فناء المدارس وعلى عاتق المعلمين؟ وهنا لا بد من القول بأن مسؤولية التربية التسامحية تقع على كاهل المجتمع والمدرسة في آن واحد. فالتربية على التسامح، وهذا يعني التربية على الديمقراطية، ليست من أجل إعداد الأفراد للحياة في المجتمع والتفاعل مع مكوناته على نحو إنساني، بل يجب علينا أن ننظر إلى هذه التربية التسامحية بوصفها حياة حيّة وفاعلة يعيشها الأفراد في كل لحظة من لحظات وجودهم وحياتهم الاجتماعية. ومع أهمية الجانب الاجتماعي لتربية التسامح فإنه يجب علينا أن نقول بأن المدرسة مع ذلك تمثل المكان الحيوي الاستراتيجي لضمان هذا النمط من التربية على التسامح. فالتربية على التسامح يجب أن تكون مسؤولية المدرسة بالتحديد لأنها المعنية بإعداد الأفراد للحياة في المجتمع وأن تعلمهم معنى المواطنة ودلالاتها.

ومن المؤسف اليوم أن البرامج المدرسية تفتقر اليوم إلى التربية على التسامح، وهي قلما تعتمد أي مناهج متجددة في مجال التربية على هذا النمط من القيم التسامحية التي يعول عليها كثيرا في المجتمعات الإنسانية المعاصرة. فالتربية المدنية تكاد تقتصر اليوم على تقديم معلومات نظرية حول قيم التسامح وحقوق الإنسان والمواطنة، ولكن المهم هو أن تقوم المدرسة اليوم ببلورة هذه المعارف في دائرة الحياة الاجتماعية الحية اليومية المعيوشة للطلاب والتلاميذ. فتعليم التسامح مشروع بعيد المدى طويل الأجل. ومن أجل تأصيل هذا التعليم وتحويله إلى طاقة حيّة فإن يتوجب على المدرسة أن تدمج قيم ودلالات ودروس التربية على التسامح في المنهاج المدرسي. وإنه لمن الضرورة بمكان في كل سياسة تربوية أن يتم تزويد المربين بالتوجهات الخاصة والضرورية للتربية على التسامح وللتربية المدنية.

وهذا أيضا لا يمكن له أن يكون كافيا إذ إنه لمن الضرورة القصوى بمكان تأمين نوعية متطورة ومتقنة من المعايير والوسائل والتقانات التربوية في هذا المجال. وهناك عنصر حيوي لا يقل أهمية في هذا المسار أن التربية على التسامح يجب أن تخضع لعملية تقويم مستمرة ودائمة كما يتوجب تحسين هذه التربية وتطويرها دون انقطاع. وبالتالي فإنه يتوجب على أصحاب القرار والمتخصصين في هذا المجال ضمان فعالية هذا التعليم وجودته.

إن أحد أهم الأهداف الأساسية للأنظمة التربوية يتمثل في تعزيز وضمان الحياة الديمقراطية وترسيخ مبادئها في مجال الحياة اليومية، وهذا بدوره يتطلب جهودا كبيرة مستمرة لا تنقطع. فكل الأنظمة الديمقراطية، وبغض النظر عن التنوع الثقافي الذي يفرض نفسه في صميم هذه المجتمعات، تعمل على ضمان تطبيق المبدأ الأساسي لوجودها والذي يتمثل في المساواة والقانون والحقوق الإنسانية. ووفقا لهذه الوضعية وما تقتضيه من ضمانات الحياة الديمقراطية في هذه البلدان فإن المعنيين بالأمر في هذه البلدان يطرحون استراتيجيات ومبادرات وأفكار جديدة فعالة من أجل تربية الأفراد على الديمقراطية والتسامح. وإذا كانت هذه الاستراتيجيات تهدف إلى بناء المجتمع المتسامح فإنها يجب أن تندرج في دائرة الحياة الاجتماعية والثقافية وأن ترتبط بصيرورتها ودورتها الدموية اليومية. وهنا يجب أن تتكامل جهود السياسيين والمربين في التحضير والتأصيل لعملية استحضار قيم التسامح في دورة الحياة الحقيقية. فالتسامح أداة لمواجهة التنوع والاختلاف أنه مشروع ثقافي تربوي يفرض نفسه في مجتمعات متعددة الثقافات والقوميات والإثنيات مشروع ثقافي يهدف إلى احتواء التناقضات الاجتماعية والثقافية وتوظيفها إنسانيا في دورة الحياة الديمقراطية، إنه مشروع ثقافي تربوي يناشد العلاقة الإنسانية بين الأنا والآخر ليستلهم كل أشكال الغنى والخصوبة من صلب التنوع والتعدد، وهذا المشروع سيكون قادرا على أن يغتني ويغني ويثمر في مجال التربية على التسامح.

خاتمة: في فلسفة التربية على التسامح

لقد بينت الدراسات والأبحاث الاجتماعية والنفسية أن ممارسة القوة والتسلط في العملية التربوية تؤدي بدوره إلى توليد التسلط الاجتماعي والسياسي على المدى البعيد، والتسلط التربوي يشكل المنهجية التربوية التي تتبناه الأنظمة السياسية ذات الطابع الشمولي. فالتسلط التربوي يعني في جوهره رفضا للتطور الطبيعي وتنكرا لوجود الآخر الذي هو تعبير عن وجود فرضته الطبيعة واقتضته فطرة الكون، وينجم عن هذا التسلط أيضا رفضا للتسامح وتعزيزا للتعصب والعنصرية. فالتربية التسلطية تؤدي إلى الخضوع والامتثال حيث يتحول الفعل التربوي إلى ممارسة تكرس على مبدأ الترويض والإخضاع وتعمل على تغييب التفكير النقدي الذي يصدر عن الفرد ذاته.

 

 

شاهد أيضاً

التسول الإلكترونى والنصب الأونلاين مقال اشرف عبوده

التسول الإلكترونى والنصب الأونلاين مقال اشرف عبوده لا شك في أن التسول ظاهرة قديمة لكنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *