قصّة قصيرة” من مخلّفات الحرب”
بقلم / عماد نوير
قصّة قصيرة” من مخلّفات الحرب”
من مخلّفات الحرب إلى ضحايا العراق في زمن الاستبداد و ما أفرزه من تداعيات…
إلى مَنْ أحسّه يحرّك نبضي و يوقفه…
رسالة من العالم الآخر منذ أن تفتقت ستائر الظلمة، معلنة ولادة ضياء حزين جديد، و أنا أجوب أرضاً موحشة، تتنفّس رائحة الموت البعيد، و عفن الخراب، ينقلني سرابها من آثار موقعة إلى آثار أخرى، و كلما اقتربت من ضالتي، و همّمتُ بإخراج عدّة الحفر، تنزلق بي أقدام الذاكرة إلى زمن الحرب، هذه الأطلال التي جرفتها سيول الأمطار شواهد سواتر أرهقتها القذائف الثقيلة الشرهة إلى تفتيت كل صحيح، و اكتسبت ديمومة بقائها في الحروب من دماء المستترين خلفها، و كأنها تشي بهم إلى الأعداء، و تمتصّ دماءهم النازفة بأنيابها الخياليّة المتعطشة، مثل زومبي يجوب الأرواح المتساقطة حين تمطر السماء شهبا و حمما و نيران وقحة، هنا، أو هنا ، أو ربما هنا، كان موضعي الذي أنقذني انهياره و وقوعه عليّ ذات مرّة، و إخفائي عن أعين المهاجمين الذين اكتسحوا الدفاعات، لحظة غفلة في احتفالات لنصر لم يكتمل بعد، لأعود بمعجزة تزجّها السماء من حين لآخر، رأفة بخمسة أطفال، أكبرهم لا يفقه بعد معنى كلمة حرب!! مازلت أتنفل متخيرا مكانا يخفيني و ضحيتي عن عيون الله المتوعدة!! في منخفض أنزلت جثة ضحيتي، أبحث في السماء عن الدليل التقليدي، نعقَ معلنا قدومه المستفز، و قد أعيته كثرة الزيارات، و ازدحام جدول أعماله بحضور حفلات القتل في كل أصقاع المعمورة، و التذكير بدفنها، و غالبا ما يُفلح بإقناع المنفذين، أرسلتُ إليه نظرة توحي بالاشمئزاز، و إشارة تفيد بأنه قد زارني قبلا و أعلمني ما أنا فاعل، أدرك المغزى، و انتقل إلى مجرم آخر يتفكّر بإخفاء معالم صنيعه. انقضّ معولي ليعانق خصوبة المدفن، تعالت الشمس لتشهد على إجرامي، فهذه الأرض الشاسعة قادرة على دفن آلاف الجثث لكنها عاجزة عن إخفاء جريمة واحدة، حفرتُ بهمّة الباحث عن كنز ثمين، عثرت على بقايا جثث دُفنت على عُجالة، أو دفنت بلا احترام، يشوبها فوضى الاختلاط المريع، انتقلت إلى مكان آخر، قابلتني نفس الجثث، أو كأنها، و بالطريقة نفسها، طمرتها و هربت كصعلوك جبان، و تتكررت الحالات، و جريمتي فاحت رائحتها، حفرت و معولي يتراقص موغلا بضرب الأرض، فتتطاير معه بدلات كاكية قريبة من سطح الأرض، تجرأت عوامل الطقس على كشفها، تملّكني الذعر، و بتُّ أتوسل بمكان قد يكون لمرقد ولي صالح، لم تطلّه يد الحرب المجنونة. أكملتُ حفري بعد أن استأذنت ما تبقّى من جثة واحدة، تكاثفت هذه الجثّة دون أن تحمل رعبا، سألتني عن سبب قتلي لضحيتي، خنقني ريقي، و تعثرت بكلماتي، و تجرأت: هو يستحقّ القتل، قتل شبابي، و ساند الظالم، و سلبني حبّي، و أنت أتشعر بالظلم؟؟ قال: أرى قاتلي كل يوم، يجترّ ظلمه و يتقيأ موبقاته. يبدو أن الظلم له قدرة المتابعة لضحاياه أينما كانوا، أرعدَ و أربدَ، و عصفَ و قرّرَ أمرا، لا أدري من أي جهة قدمت عليّ هذه الزلازل المجلجلة و المرجفة للأرض، لكنني أدركت أن الزوبعة القادمة، قد وقفت على غايتها و نزل منها مسوخ، قردة، علوج، طوّقوا المكان، انهال الرصاص من كل جانب، تسابقت رصاصاتهم تنهش كل شيء حيّ فيّ، هويتُ في الحفرة و عيوني تنظر إلى ضحيتي التي نالت منها الشمس، ضحكت الجثة القديمة، قلت: هذا الذي قتلك و قتلني و قتل نصف بلدي، عادت الزوبعة كرياح عاتية محمّلة بروائح نتنة، أفرغوا ما بقيّ لديهم من ذخيرة في جسدي الممزق.. هتفتُ بأعلى صوتي: يا لظلمكَ، تقتلني حتى و أنا في عالم الأموات..