الحلقة الاولى من رواية
“

“
رواية / علي الفقي
إهداء
إلى الذين يحلمون ويحملون بين عيونهم الأماني
أعرف …نعم أعرف
في الحلم …لا وجود للخدع أو الإدعاء…
ولكن…
هل من الغريب أن نحلم ؟
لا…بل من الواجب علينا الحلم، ونعمل على تحقيقه …
أحلام اليقظة هي التي نفكر فيها، ونتمنى أن نكون هذا الذي نحلمه …كالثروة أو الشهرة…النجاح والحب…أو…
باختصار تلك الأحلام هي الأمنيات، نتمنى أن نكون في حال أحسن مما نحن عليه الآن…في ذات اللحظة…
إنما أحلام النوم، التي نراها ونحن نائمون…كيف تتحقق؟
في النوم نكون في عداد الأموات المرفوع عنهم القلم …لايحاسبون، ولا أعتقد أنهم يحققون ما يرون في أحلامهم بأيديهم ، أو بفعل يشاركون فيه ، إنما هو مقدر عليهم ما يرونه في أحلامهم إذا تحقق ..
ولأنني أرى منذ سنوات طويلة تمتد إلى أكثر من ثلاثين سنة، أحلاما ورؤى قد تحققت بالفعل..وهى غريبة أحيانا، ملتوية أحيانا أخرى …مثل رؤيتي لموت أخي، فمات في اليوم التالي! ورؤيتي أنني قابلت صديقا قديما لم أره منذ سنوات، فرأيته في اليوم التالي – وكنت مغتربا ..في وطن غير الوطن – ومثل رؤيتي لأموال ملقاة في الشارع، في نفس الأسبوع عثرت عليها وسط زحام الناس المنشغلين، فأخذتها غنيمة ولقطة ، كنت في شدة الاحتياج إليه…
هذه الأحلام وغيرها جعلتني أقف أمام نفسي وأسترجع تاريخا طويلا يعود إلى أيام الصبا…
كنا نلعب في الحارة – أنا وأخي – مع العيال نركل الكرة، ومرت الغجرية ، ضاربة الرمل وموشوشة الودع، نساء الحارة كن يستوقفنها لتقرأ لهن الطالع وتفشى لهن أسرار أزواجهن للمتزوجات ، وتعطى الأمل لمن فاتهن القطار بأن ما يتمنين آت على بعد خطوات قليلة فقط …و…
استرعى انتباهي ما تقوله الغجرية وقلت في نفسي أدخل التجربة وأضحى بالقرش الذي يدفئ جيبي لأعرف طالعي ومستقبلي ..هل سأصبح طبيبا كما أتمنى أو مهندسا كما أحلم أو ضابطا كما يريد أبى أو وكيل نيابة كما تتمنى أمى ….
نهرتني النساء – يا واد أنت صغير على كده – إلا أننى صممت ودفعت القرش للغجرية ، حطت مشنتها على الأرض وأراحت مقعدتها على الرصيف –بعد أن أبعدتها عن نساء الحارة-
ضربت الرمل بيدها الموشوم على ظهرها خيوط خضراء، كالنقاط الثلاث على هيئه هرم أسفل ذقنها ، وأطبقت على ثلاث ودعات بين كفيها وقربتها من فمها توشوش بكلام لم أسمعه وهى مغمضة عينيها ، بينما عيناي تنظران إليها في وداعة واستمتاع وشوق لما سأسمعه عن مستقبلي ..فإذا بها تفتح عينيها في بطء وتنظر في عيني مباشرة ثم قالت: انت عمرك كم سنة ؟.. لست أدرى بماذا أجبت عندما فاجأتنى بالسؤال يجوز 12أو13 سنه في ذلك الوقت..
قالت وهى تلملم حاجاتها في منديل كبير وضعته في مشنتها – يا بني غريبة إن الودع يقول هذا وأنت في هذه السن.
قلت مندهشا: – ماذا قال يا حاجه ؟
حملت المشنة فوق رأسها وقالت:
– الرمل والودع قالوا مكتوب على جبينك اثنتين، امرأتان يعنى
قلت مستفسرا: – ماذا يعنى يا حاجه؟
– يعنى يا بني ستتزوج اثنتين، واحدة بدري غريبة، وواحدة متأخر من دمك…
بعد هذه الواقعة التي لم أنسها طوال عمري رأيت في منامي أننى أصبحت رجلا كبيرا عندي أولاد يقفون أمامي وعن يميني امرأة سمراء تشاور للأولاد أنها أمهم ، وعن يساري امرأة أخرى بيضاء جميله تشاور على الأولاد ثم تضع أصابعها بالقرب من عينيها، رأسي يميل على صدر اليسرى البيضاء ، وتضغط على كفى اليمنى السمراء أم الأولاد .
حكيت لأمي عما حدث مع الغجرية وما رأيته في الحلم، فقالت انت لسه صغير واللي حصل ده كلام فارغ..كذب المنجمون يا ولدى..
ولكنك يا أماني تظهرين في حياتي الآن …أليس بيننا صلة دم ؟ الهواية والروح الساكنة والمتوحدة فينا من الدم ؟!
وفوق كل ذلك…أليس الحب الذي شعرنا به معا بعد كل هذا العمر أقوى من الدم ؟
————————-
كنت نائما على الأرض بين جدران غير محددة، هذه الجدران تضم غرفة واسعة أو حوشا كبيرا ليس به منفذ من باب أو شباك أو ما شابه.
كانت الأرض مفروشة بفرش مستهلك قديم، بطاطين قديمة ، ملاءات مهترأة مخدات واطئة، قمت مفزوعا على صرخة واحدة من الولدين النائمين بجواري – إلحق يا بابا …فئران .. فئران.
المشهد مريع…فئران في أنحاء المكان ، منها الفردي ومنها الملتصق بآخر ، يسرعون في اتجاهات مختلفة …ينتشرون بشكل أرعبني أكثر مما أصاب الولدين بالفزع والخوف…اقترابهم الشديد منى ومن الولدين جعلني أشعر بالخوف من لمسهم …لملمت الفرش – في عجالة وحذر – من الأرض، ألقيته على بعض الفئران، كورت الفرش بما حواه من فئران لا أعرف عددهم وجعلت أبحث عن منفذ لألقيها خارجا، حثثت الولدين ليبحثا معي عن أي مخرج…إلا أن الولدين التصقا بى، كتفاني، خر ج صوتي ضعيفا محاولا تشجيعهما، جعلهما بطلين في مواجهة هذا الخطر، بل حاولت أيضا أن أجعل ما يخافون منه ما هو إلا شيء تافه لا يستحق كل هذا الخوف …بل يجب مواجهته بأقل قدر من الشجاعة، تحاملت …لابد أن أبدأ ذلك بنفسي لأنني قدوتهم، فألقيت ما ضممته بالفرش أمامي في الحائط وأقوم بجمع غيرهم في فرش آخر وأخبطه بالحائط…وهكذا حتى اختفوا …اختفت الفئران …
—————————————-
لم أنتبه إلى الوقت الذي استغرقته هذه الغفوة التي فاجأتني أثناء انشغالي في ترتيب أوراق وملفات العمل ، مستلقيا على كنبة الأنتريه …تفلت عن شمالي ثلاث مرات وتذكرت مقولة قديمة لأمي بأن الفئران في المنام نساء فاسقات أو سارقات…استبعدت أماني من تأويل أمي، ضممت الأوراق إلى ملفاتها، وأودعت الملفات في كيسها البلاستيك الأسود وتركته على كرسي الأنتريه بجوار الأقلام، الأزرق والأحمر والأخضر وختم وكيل النيابة …
حين دخلت غرفة النوم ورأيتها نائمة ينحسر الغطاء عن ساقيها ووسطها، يتسرب الضوء الخافت من المطبخ إلى حيث مواضع الإثارة فيها، وضعت يدي على صدرها، فاعتدلت مكتملة أمامي ، ملت برأسي ، قبلت جبينها فرفعت رأسها قليلا حتى مستوى شفتينا ، كأنها تدعوني للقاء غاب طويلا، تركت يدي نهديها وتحسست القلب برفق، استشعرت دقاته ، قالت هامسة ( القلب بخير ) …حاولت معها برفق، كما في المرات القليلة السابقة التي اكتملت فيها نشوتنا عبر عدة شهور فائتة، في كل مرة استشعر وجع القلب وارتفاع دقاته، لكنها كانت تقاوم أنفاسها اللاهثة المتحشرجة ، تحاول إرضائي …في بعض هذه المرات القليلة تغيب عنى لذة اللقاء، الخوف عليها وعلى قلبها…فلا أكمل – لا تكتمل النشوة – أكتفي سريعا بدون انفعال، حابسا ما كان من المفروض أن يتحرر وينزلق إلى عالم الحرية، داخل هذا الحيز الضيق المحير…أكتفى بقولي أنى انتهيت، فتقول تمام …كله تمام، مدارية عينيها عنى وتقوم مفتعلة المسح بين فخذيها وتنظيف ما قد يكون قد علق بها…
في هذه المرة لم يحدث الفعل …فكرة انعدام الحرية انتابتني، استولت على تفكيري وتركيزي …قفزت أماني …وقفت أمامي، تجردت من ملابسها، مثل كل مرة أراها فيها، دعتني لانتشائها وانتشالها من العدم…جسدتها أمامي وألقيت نفسي فوقها بكل قوة، شعرت وأنا أدفن رأسي بين نهديها المتلألئين وجسدي في جسدها – الليل يدثرنا – أنى أنتقم لكل سنين الذعر الخفي، ربما لمئات السنين من الصمت والكذب والضغينة وال…… الحياة، تلك الحياة التي لم تلتفت لي طوال هذا العمر، لكنها كانت منشغلة بترتيب أوراق أخرى لناس آخرين…
حتى انتهيت، واتسعت عيني للبحث عن أماني …كانت هنا في هذا الفراش، الفراش خال إلا من القلق والمرض ورائحة ماء مستهلك قذر، مخلوط بعرق زفر…اختلطت الروائح وأنا أقوم متوثبا من هذا الفراش الذي يزداد يوما بعد يوم ضيقا في صدري…تخطيت الغرفة يتابعني ظلي المنبعث ورائي من ضوء المطبخ، تزكم أنفى روائح مختلطة عفنة، زفرة، ضاق بها صدري…حتى الظل الذي جاء من خلفي ليتمدد بهدوء أمامي هو الشيء الوحيد الذي كان بلا رائحة.